تشريح الدَولة (1): ماهية الدَولة واحتكار العنف

BY: Administrator

 

إذا كُنّا نستعين بالدولة وشُرطَتها لحماية أنفُسِنا من المُجرمين العاديين..
فمَن يحمينا من الدَولة نفسها؟
ومَن يحمينا من النَهب الذي تُمارسُه علينا؟

 

موراي روثبورد، (ديفيد بوز – التشكيك في السُلطة)

 

[ مسألة الدَولة ]

هَب أنّك سمعت باب منزلك يُطرَق يومًا، فذهبت لتفتح الباب، وإذ به جارك يضع المُسدّس بين عينيك، ويقول لكَ الآتي:

من الآن فصاعدًا، أي شيء ستقوم بتغييره في منزلك، ستقوم بأخذ الموافقة منّي، وستدفع لي أجرة بسيطة بدل موافقة.

وإذا ما أردتَ أن تأتي بعامل يزرع لكَ هذه الحديقة، فيجب أن أوافق عليه، وأن آخذ نسبة مالية قبل أن يشرع بالعمل.

هكذا يرى الّليبرتاريون الدّولة، إنّها تسرق منك ما هو لكَ بالأساس، وتُكرهك على فعل كان خيارُكَ بالبداية، وتُعطي لنفسها الأحقّية بأن تُملكّك أو أن تنزع منك، منطقة كانت ملكك بالأساس. إنّها الجهة التي تسمح لنفسها باحتكار وسائل العنف بتعبير ماكس فيبر، فالعنف الذي تمارسه الدولة، هو وحده العنف المشروع والمسموح به.

ينتمي هذا النصّ إلى الفلسفة الليبرتارية وموراي روثبورد هو من أبرز أعلام المدرسة النمساوية في الاقتصاد السياسيّ يحاول روثبرد في هذا الكتاب أن يُفكِّك الدولة وشرعيتها، وبدلًا من الحديث عن نظرية العقد الاجتماعيّ لنشأة الدولة، يتساءل روثبورد: عفوًا؟ متى وقّعنا عقد مع السُلطة التي تحكمنا، لا أذكر ذلك. ويذكّرنا هذا بالنصّ الذي كتبه المُفكِّر والمُؤرِّخ الأمريكي تشارلز تيللي عن الدولة بوصفها جريمة منظّمة في كتابه War Making and State Making as Organized Crime.

إنّ أهمّية هذا الكتاب تأتي من أنّه يتحدّث عن الأصول الأوّلية للدَولة وكأنّه يتحدّث عن المادة الخام التي ستنبثق منها الأفكار اللاحقة عن الدولة وشرعيتها، إنّه مباشر وسَلِس ويتحدّث عن الأُسس والبدهيات، ولطالما كانت العودة للبدهيات ضرورة حينما يتشوّش المشهد وتتعقّد الأفكار ويتوه التفكير. إنّه نَصّ يُذكِّرنا بالنصوص الكلاسيكية للفلسفة السياسية مثل كتاب القانون لباتسيا وكتاب لابويسيه مقال في العبودية المُختارة، ونحوها من المُؤلّفات التي وإن كانت يراها البعض حِدّية وصارمة بعض الشَيء، إلّا أنّ أهمّيتها تكمن في أنّها تُعطينا صُورَة مُجمَلة ومباشرة ومُفكّكة لمَوقع الفَرد من الدولة.

ومشكلة الواقع حين يُهيمن بأدلوجته وأنظمته وأدواته، في أنّه يحرمك القدرة على التفكير في خيارات أُخرى، إنّك تتعلّم من نفس النظام عبر مدارسه وجامعاته أنّ لا شيء أفضل مما هو قائم، ولم تثبت فاعلية أيّة خيارات أُخرى، إنّ المَرء ينشأ في واقع ويتعلّم عبر أدوات النظام تفسير هذا الواقع وتبرير وجوده، وهكذا تروّج الحكومات عند الأزمات لشعارات ليس هُناك أيّ بديل آخر. There is No Alternative – TINA

هُنا وبحسب مُنير فاشه تأتي أهمّية الخروج من القفص المَعرفيّ الذي وُضعنا فيه، وتأتي أهمّية استعادة الحِكمَة، إنّ أسئلة: ما هو البديل؟ ما هو البديل عن الدولة؟ ما هو البديل عن المدرسة؟ ما هو البديل عن السوق؟ هذه الأسئلة حينما تطرح بصيغتها التعجيزية أمام كل نقد للواقع القائم، كلّها أسئلة تعكس تعطّل الفِكر وفقدانه قدرته على الخيال، وحدَهُ الخيال ما يُمكّننا من رؤية البدائل لما هُو سائد. ويأتي هذا التعطّل من عاملين رئيسيين: أوّلًا: نظام تعليميّ سلبيّ يُبرِّر السائد ولا ينقده، وهُنا تأتي أهمّية المشاريع التعليمية الثورية، كمشروع باولو فريري، وإيفان إيليتش وغيرهم. وثانيًا: انغماس عام وإغراق في الحياة اليومية المُستهلِكة والمُستنزِفة التي لا تُعطي الفرد أيّ مجال لأن يُفكِّر في ذاته وغيره والوجود من حوله.

هذا على المُستوى الكونيّ والمَعرفيّ، أمّا على المُستوى العربيّ تتضاعف أهمّية مسألة الدولة، التي يبدو أنّها ما زالت مُعلّقة للآن، ولفترة طويلة من الزمن، نتيجة سيرورات تاريخية لولادة غير طبيعية للدولة في العالَم العربيّ، والتي ليس من الدقّة وصفُها بالدُوَل “الحديثة” إذ يبدو العديد منها وكأنّه لَم يتمايز بَعد في بُنيَته ووظيفته ليصير دولة بالمعنى الحديث والدقيق للكلمة.

إنّنا وللأسف ما نزال للحظات كتابة هذه السطور، أقول ما نزال عالقين في مرحلة ما قبل الدولة بصيغتها الحديثة، وما زلنا لم نتحرّر بعد من ثقل العشيرة، وتدخّل الدولة الخارجية، فالاستقلال الشكليّ لا يُعبّر عن الاستقلال الحقيقيّ، والذي قد ينوب عن وجوده، من أبناء جلدتنا ممّن يؤدّون وظائف استعمارية، وممّن هُم أشدّ بطشًا وبأسًا. فالثالوث المُعيق للتغيير اليوم، بحسب الأستاذ مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور، هو: أولًا: جهاز البوليس والمخابرات، ثانيًا ثقافة الاستحواذ القبائلي والعشائري، وثالثًا: الاستقطاب الإيديولوجيّ بين تطرّفين (تطرّف دينيّ وتطرّف عَلمانيّ).

ليس من المبالغ القَول أنّ مسألة الحُرّية ومسألة الدولة ومسألة الدين هُم أهم ثلاث مسائل تُواجه العالَم العربيّ والإسلاميّ اليَوم، هذه المفاهيم المذكورة بشكل مُنفَصِل، هي في واقع الأمر مُتشابكة في دواخلها، فكيف نفصل الحديث عن السياسيّ والدينيّ؟. ويتضخّم الحديث عن هذه المَسَائل من بعيد أو قريب، وبشكل نُخبَويّ أو عامّي، لأنّها مسائل مركزية في الشأن العربيّ ولأنّها ما زالت عالقة وغير محلولة، ممّا يزيد التمحور حولها والحديث عنها. وبتعبير العَرَويّ: يتضاءَل واقع الحُرّية في الحياة اليومية، فتتضخّم فكرة الحُرّية في الذهن. وهكذا وبشكل مُؤسِف، تكون ثقافتنا مهمومة بما هي محرومة منه بالأساس، إنّها ثقافة تُحاول أن تتطلّع للأمام ولكنّها تبقى مُعاقة عن التقدّم والنهوض لأنّها تحمل كَمًّا غير هيّن من مشاكل موروثة ومتراكمة شكّلت واقعها الراهن. وأضيف للأسئلة الثلاث، مسألة رابعة لا تقلّ أهميّة، بل قد تكون مفتاح ما سبق، وهي مسألة المعرفة/المعلومات، أو الحاجة المُلحّة لإجراء الأبحاث والدراسات وتوثيق المعلومات وجمع البيانات قدر الإمكان.

لقد تمّ تناول مسألة الدولة في العالَم العربيّ كثيرًا، وليس بما فيه الكفاية، منها مشاريع مُؤسّسة وهامّة تناولها عَزميّ بشارة، وبرهان غليون، طارق البشري، نزيه الأيّوبيّ والعَرَويّ وغيرهم، بالإضافة لمشاريع الأُمّة والنهضة، ولكنّ هذا لا يعني أبدًا أنّنا وصلنا إلى مرحلة من الزخم التنظيريّ الذي يُمكنّنا من الشروع بصيغة واضحة ومحدّدة نحو تغيير حقيقيّ، يستأصل الدولة العميقة الفاسدة والمفسدة، ويُولي الناس حُرّياتهم وحقوقهم ويُمكّن نظام عادل من إفراز الكفاءات وتنصيبهم. 

لقد كشف الربيع العربيّ لنا عن ضرورة تعميق فهمنا لعلاقتنا بدولنا، وطبيعة السُلطة ومُساءلة الدور الذي تؤدّيه حكوماتنا، والأفق أو الهاوية الذي تجرّنا نحوه. لقد أدركنا مُتأخّرين أنّ عَدوّنا الأخطر ذلك الذي في الداخل، ما نحسبه منّا ويحسبنا منّه، ثُمّ لمّا فتحنا أفواهنا سارع بإلجامنا بالنّار والرصّاص. ولعلّ ردود أفعال الدول تجاه الأحرار الذين خرجوا مطالبين بالإصلاح وإسقاط الفساد والفاسدين، كانت في جوهرها ردّ فعل تأديبيّ وانتقاميّ أكثر من كونه ردّ فعل تنظيمي أو إجرائي. إنّه جبروت لا يقبل المساءلة، وطغيان لا يقبل النقد، ونهب لا يقبل المشاركة، تآمر فيه المُستبدّون سويًا فأُرسل الدعم، وأُنفقت الأموال وسُلّحت الميليشيات ودُعمت الثورات المضادة بالملايين الهائلة، خوفًا من الحُرّية والأحرار.

إنّ هذا النَص ينقسم إلى مَقالين، وهو ترجمة لكتاب صغير لموراي ورثبورد بعنوان تشريح الدولة Anatomy of State. نَصّ بسيط في مُستواه.. وأفكاره مُيسّرة للقراءة والفهم وبإمكان مُعظَم القُرّاء فهمه، دون قراءات قَبلية، وهو من النصوص التي يُمكِن للمَرء أن يقرأها بجلسةٍ واحدة. ولقد قُمتُ بالتصرّف ببعض الجُمَلِ وقولبتها لتكون أكثر استساغة للقارئ العَربيّ وأكثر مفهومية وأضفتُ بعض الصِفات التي تُعمِّق المَعنى الذي أراد الكاتب إيصاله وتِبيانه -فيما أعتقد-، فتدخّلت بالنصّ بالقدر الذي لا يُطيح بموضوعية الترجمة وأمانتها، وفيما يلي الجزء الأوّل منه، وسأعرض تتمّة الكتاب في المَقال الذي يليه.


[ ما لَيسَ الدولة ]

إنّ الناس يَقَعُون في مُغالطة شنيعة حينما يَخلِطون بين أنفسهم وبينَ الحكومة،

 نحنُ لسنا الحكومة والحُكومَة لَيسَت نحن.

موراي روثبورد

تُوصَف الدولة -وعلى نطاق عالميّ تقريبًا- بأنّها مُؤسّسة للخَدَمات الاجتماعية. ويُعظِّم بعض المُنظّرين من قيمة الدولة ويُبجّلونها دَرجة تبلغ حَدّ تأليهها أو ينظرون إليها بوصفها إلهًا للمُجتَمع. فيما يعتبرها آخرون مُجرّد مُؤسّسة مُساندة للمُجتَمَع ومُنظِّمَة لشؤونه، وهي وإن كانت في كثير من الأحيان غير فعّالة في تحقيق الغايات والمقاصد الاجتماعية المَرجُوّة منها، إلّا أنّ المُعظَم يعتبرها وسيلة ضروريّة لتحقيق أهداف الجِنس البَشَريّ. إنّ الدولة تقريبًا هي مجموعة من الوسائل الموُجّهة ضد “القطاع الخاصّ” وهي جِهَة مُنافِسة للإنسان على موارده وكثيرًا ما تربح الدولة في هذه المنافَسة.

ومَع صعود الديمقراطية وتناميها، تضاعفت التعريفات التي تَربِط مفهوم الدولة بالمُجتَمَع، حتى صار من الشائع أن تسمع عبارات وجُمَل مُتداولة تناقض كلّ ما يَمُتّ للمنطق بصِلَة وتنافي الحِسِّ العَقليّ السليم، تمامًا مثل العبارة القائلة: “نحن الحُكومة”. إن ضمير المُتكلِّم “نحن” في العبارة السابقة قد يُحدِث تَمويه إيديولوجيّ يُغطّي على واقع وحقيقة الحياة السياسية. فإذا كُنّا “نحنُ الحكومة” بالفعل، فهذا يعني أنّ أيّ شيءٍ تقوم به الحكومة للفَرد هُو خياره الشخصيّ والطَوعيّ بذلك، وهذا يعني أنّ ما تفعله الحكومة بالفَرد هو ليس إلّا ما اختاره الفرد أن يفعلَه بنفسه، إذ أنّه وفقًا للعبارة السابقة “نحنُ الحكومة” يكون الفَرد والحكومة الشيءَ نَفسه.

                                                                                                                 

وبناءً على ذلك، إذا تكبّدت الدولة دُيونًا عامّة ضخمة للغاية، وكان عليها استيفاؤُها عبر فرض ضريبة على مجموعة أو قطاع أو طبقة ما، على حساب طبقة أخرى، فإنّ عِبء هذا القرار سيختفي ويضيع بقولنا “نحنُ مَدينون لأنفسُنا” وكأنّهم يقولون: علينا ديون، وسنستوفيها من أنفُسِنا. وهكذا ووفق هذا المنطق لا تقوم الدولة بشيء غير مرغوب فيه، ولا يُمكِن إدانة الدَولة عن أيّ فعل تقوم به، فهو قرارُ الناسِ أنفُسَهَم. فإذا ما قامت الحكومة بتجنيدِ رَجُلٍ ما، أو بإلقائه في السجن بسبب آرائه المُعارِضة، فإنّه هو “مَن يفعل ذلك بنفسه”. وتِبعًا لهذا المنطق، فإنّ أيّ يهوديّ كانت قد قتلته الحُكومة النازيّة، هو في واقع الأمر لَم يُقتَل وإنّما عِوَضًا عن ذلك، يجب القَول بأنّهم: قد انتحروا بأنفُسِهِم. أليسوا هُم أنفُسَهُم الحكومة؟ ألم يتمّ اختيار الحكومة بشكل ديمقراطيّ؟ وبالتالي فإنّ أيّ شَيءٍ كانت قد فعلته الحكومة، لَم يَكُن إلّا خيارهم الشخصيّ وقرارهم الطَوعيّ. بالطبع لا يرى الناس الأمر بهذه الطريقة، ولا يُؤمِن مُعظَمهم بهذه النقطة بشكلٍ واعٍ ومُتقصَّد حينما يصيحون بعبارات “نحن الحكومة”، ومع ذلك فإنّ المُعظَم يقول بهذا التناقض وهذه المُغالطة ولو عَفويًا بدرجة أو بأُخرى حينما يخلطون بين أنفسهم وبين الدولة.

من هُنا تأتي أهمّية التأكيد على أنّنا “نحنُ” لسنا الحكومة، والحكومة ليست “نحن”. لا تُمثِّل الحُكومة بأيّ حال من الأحوال غالبية الشعب ولا أكثريته. وحتى ولو فعلت ذلك، حتّى لو قرّر 70% من الناس قتل الـ 30% المُتَبقيّة، فإنّه لا يزال يُسمّى قتل وجريمة مُتعمّدة، وليس انتحارًا طَوعيًا للأقلّية المذبوحة وليس خيارها الشخصيّ.  من هُنا لا يجب السماح بأيّ استعارة عُضوية، ولا يجب السماح بأيّ عبارة مُبتذَلة مُضلِّلة للواقع مثل “إنّنا جميعًا شُركاء وجُزءًا من بعضنا البعض” مثل هذه العبارات قد تُخفي الحقيقة البديهية وُتغطِّيها.

إذا فهمنا ما سبق، إذا لَم تَكُن الدولة “نحن” ولم نَكُن “نحنُ” الدولة، إذا لَم تكن الدَولة تجمّع بَشريّ يُقرِّر مناقشة وحَلّ إشكالات المُجتَمَع ولَم تكن اجتماعًا في الأروقة ومراكز المدينة، فما هي الدولة إذًا؟

بشكل مُختصر، يُمكِن أن نُعرِّف الدَولة بأنّها الجِهَة أو الهيئة التي تُحاول الحفاظ على احتكار استخدام العنف والقُوّة في منطقة إقليمية مُحدّدة. وبشكل أكثر تحديدًا، هي الجهة الوحيدة في المُجتَمَع التي تُحصِّل إيراداتها عن طريق الإكراه والإجبار. وليس عن طريق المُساهمة الطَوعية في الإنتاج وليس كما يُقال عنها بأنّها تُحقّق إيراداتها عن طريق ما يأتيها من مُقابِل إزاء ما تُقدِّمه من خَدَمات للمُجتَمع.

إذ بينما يحصل الأفراد والمُؤسّسات المُجتمعية الأخرى على دخلهم من خلال إنتاج السِلَع والخَدَمات وعبر البيع السِلميّ والطَوعيّ لهذه السِلَع والخَدَمات إلى الآخرين وتبادلها. بينما يجري هذا كُلِّه، تُحقّق الدولة إيراداتها وعوائدها عن طريق الإكراه والإجبار وباستخدام التهديد بالسجن أو باستخدام السلاح. هذا هو الجوهر الرئيسيّ لما تقوم به الدولة أمّا ما تبقّى من إجراءات وتوابع فهي أمور لاحقة وثانوية. إنّ الدولة تفرض سُلطتها أوّلًا عبر استخدام العُنف والإكراه والتهديد، لتحصيل إيراداتها، وبعد إنجاز ذلك، تقوم بما تبقّى من أمور عامّة من تنظيمٍ للمجتمع وإملاءات وإجراءات تخصّ شؤونها الخاصّة. وقد يظنّ المَرء أنّ الاستقراء البسيط لكُلِّ الدُوَل عبر التاريخ سيكونُ كفيلًا بأن يُعطِي المَرء تأكيدًا على هذه النُقطة، إلّا أنّ مُستنقَع الأساطير حَول تجميل الدولة وصرف النظر عن حقيقتها قد استمرّ طويلًا، عبر حَبكَ الأسطورة القائلة بأنّ وجود “الدولة” هُو أمرّ ضروريّ لا بُدّ منه ولا يُمكِن الاستغناء عنه.


[ ماهية الدَولة ]

يُمكِن أن نُعرِّف الدَولة بأنّها: الجِهَة التي تحتكر استخدام العنف والقُوّة في منطقة إقليمية مُحدّدة

موراي روثبورد

يأتي الإنسان إلى هذا العالَم عاريًا ويُولَد ولا شَيءَ معه. ويحتاج الإنسانُ عَقلَه ليتعلّم كيفية الاستفادة من الموارد التي تمنحُهَا إيّاه الطبيعة، وليتعلّم كيفية تحويل هذه الموارد (عن طريق “رأس المال” على سبيل المثال) إلى أشكال وأنماط وأماكن بحيث يُصبِح بالإمكان استخدام هذه الموارد  لتلبية احتياجات الإنسان، والارتقاء بمُستواه المَعيشيّ. والطريقة الوحيدة التي تُمكِّن الإنسان من فِعل ذلك، هي عن طريق استخدام عقله وقُدُراته لتحويل الموارد عبر “الإنتاج” إلى مُنتجات ذات قيمة، ومن ثمّ مُبادلة هذه المُنتجات بمُنتجات أُخرى صَنَعها الآخرون. لقد وجدَ الإنسان أنّه ومن خلال هذه العَمَلية الطَوعية وعبر المُقايضة والمُبادلة المشتركة، فإنّ إنتاجية المُشاركين في عملية التبادل هذه ستزداد، وسيرتقي مُستواهم المَعيشيّ بالتالي بشكلٍ كبير. ولهذا فإنّ المَسَار الطبيعيّ الوحيد للإنسان إذا ما أراد البقاء على قيد الحياة وإذا ما أراد تحقيق الثروة، هو الانخراط في عملية الانتاج والتبادل السِلميّ للإنتاج، باستخدام عقله وقُدراته.

وتجري العملية السابقة على مراحل، إذ يفعل الإنسان ذلك أوّلًا من خلال إيجاد الموارد الطبيعية، ومن ثمّ بتحويلها وإعادة إنتاجها وبهذا تصير ملكه الشخصيّ، ثُمّ يقوم بمبادلة ملكيته هذه (التي أعاد إنتاجها من الموارد الطبيعية) بما يُماثل قيمتها من مُلكيات الآخرين ومنتوجاتهم. وهكذا فإنّ المَسار الاجتماعيّ الذي تُمليه الطبيعة البشرية واحتياجاتها، هو مَسار “حقّ التملّك” و “السوق الحُرّ” للهِبَات ولتبادل هذه الحقوق.

ومن خلال هذا المَسَار، يتعلّم الناس كيف يُجنّبون أنفسهم الطرائق الغابَويّة وكيف يتفادون شَريعة الغاب وأساليبها في الاقتتال على الموارد الشحيحة والمَحدودة، تلك الأساليب التي لا يُمكن للفَرد أن يكتسب الموارد عَبرها إلّا على حساب الآخر وحرمانه. وبدلًا من أساليب الغاب هذه، وعبر التبادل السِلمي والمُنسَجِم للمَوارد والمُنتجات، تتضاعف هذه الموارد بسلَام ويُعاد توزيعها وإنتاجها مِرارًا وتكرارًا.

لقد أشار عالم الاجتماع الألمانيّ فرانز أوبنهايمر إلى أنّ تحصيل الثروة وامتلاكها يتمّ بإحدى طريقتين. الطريقة الأولى وهي المذكورة أعلاه من الإنتاج والتبادل السِلميّ، وأطلق على هذه الطريقة إسم “الوسائل الاقتصادية”. أمّا الطريقة الثانية، فهي أبسط من حيث أنّها لا تتطلّب بذل جُهُد إنتاجيّ، والتي تَحدُث عبر الاستيلاء على مُمتلكات الغَير واستخدامها بواسطة القُوّة والعُنف. فهي ليست عملية تبادلية بقدر ما هي استيلاء من طرفٍ واحد، وهي بمعنًى صريح ومباشر: سرقة لمُمتلكات الآخرين. وقد أطلق أوبنهايمر على هذه الطريقة إسم “الوسائل السياسية”. ويبنغي أن يكونَ واضحًا لنا أنّ الاستخدام السِلميّ للعَقل وللقُدُرات في عملية الإنتاج والتبادل، هو الطريق الطبيعيّ للإنسان والذي يتماشى وينسجم مع طبيعته، وهو الطريق الذي يضمن له وسائلَ بقائه على هذه الأرض، وتمتّعه بها. وينبغي أن يكون واضحًا لنا أيضًا، أنّ الوسائل القَسرية والاستغلالية والقهريّة تتعارض مع القانون الطبيعيّ، إنّها وسائل طُفيليّة تمتصّ الآخرين وتقتات على إنتاجهم، وبدلًا من أن تُضيف للإنتاج، فإنّها تُنقِصه وتُقلِّل منه.

إنّ “الوسائل السياسية”  تسرِق الإنتاج وتُنقصه شيئًا فشيئًا عبر مجموعة من الأفراد الطُفَيليّين،  وهذه السرقة لا تقتصر على التقليل من الإنتاج عبر سرقته فحسب، وإنّما تُضعِف وتُقلِّص الحافِز لدى باقي المُنتِجين الطبيعيين بحيث لا يتجاوز إنتاجهم أكثر ممّا يحتاجونه وبحيث لا يزيد ما ينتجونَه عن المقدار الذي يكفيهم، إذ الباقي والفائض ستتم سرقته والاستيلاء عليه على أيّة حال. وهكذا وعلى المَدى البعيد يُدمِّر السارق معيشته من خلال تقليص مصادر إمداده وتدنّيها. ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ أنّ هذا المُفتَرِس والطُفيليّ، حتّى على المدى القريب، وفي كلّ مرّة يفعل فيها ذلك، فإنّه يتصرّف بما يناقض طبيعته البشرية ويُعاكسها ويُخالفها.

لقد وَصَلنا الآن إلى نُقطة تُمكِّنُنا بشكلٍ أفضل من الإجابة على سؤال: ما هي الدولة؟

إنّ الدولة وبتعبير أوبنهايمر هي “هيئة الوسائل السياسية” وهي الجهة المَعنية بمَأسسة وتنظيم عملية الافتراس والاستيلاء على مساحة مُعيّنة من الأرض. وبالنسبة لجريمة هي في أحسن أحوالها مُتقطّعة وعابرة واتّكالية ومرهونة لإنتاج الآخرين، فإنّها جريمة مُعرّضة للتهديد، إذ قد يتمّ قطع شريان الحياة الذي يُغذّي هذا الكائن الطُفيليّ في أيّ وقت، من خلال قيام الضحايا بالمُقاومة والدفاع عن أنفسهم وعن مُمتلكاتهم. من هُنا تأتي أهمّية الدولة، لتوفير قناة قانونية ومَنهَجية ومُنظّمة لتسهيل الافتراس والانقضاض على المُمتلكات الخاصّة والإنتاج الخاصّ، ولتُغطّي وتحمي تلك الطبقة الطُفَيليّة في المُجتمع، التي تعتاش على إنتاج الآخرين وسَرِقَتهم، وتحافظ لهم على استقرار نمطهم المَعيشيّ الطُفيليّ هذا وتضمن استمراره.

وبما أنّ الإنتاج يجب أن يسبِق دائمًا عملية الاستيلاء (إذ لا يُمكِن سرقة إلّا ما هو موجود بالأساس)، فإنّ السوق الحُرّ هو واجهة الدولة. إذ لم تَنشَأ أي دولة من قبل عبر “عقد اجتماعيّ” محض. لقد تولّدت الدولة على الدوام عبر السيطرة والاستغلال. وقد كان النموذج الكلاسيكيّ الشائع لعمليات النهب والاحتلال، أن تذهب قبيلة لتقتُلَ وتنهبً قبيلةً أُخرى وتستولي على مواردها ومُنتجاتها. لكنّ هذه الطريقة العتيقة قد تبدّلت، بعدما لُوحِظَ أنّ مُدّة النهب ستطول وستكون أكبر وأكثرُ جدوًى بعوائدها وأرباحها، إذا ما سُمِح لأصحاب القرية المنهوبة والمُحتَلّة أن يبقوا على قيد الحياة وأن يمارسوا حياتَهم بشكلٍ طبيعيّ وأن يُنتِجوا كالمُعتَاد، فيما يستولي الغُزاة على أرضهم وعلى حُكّامهم، مُقابِل جِزية سنوية ثابتة يدفعها المقهورون كضريبة للغُزاة والمُستعمرين.

يُمكِن توضيح الطريقة الوحيدة التي تُولَد فيها الدَولة، من خلال تَخيُّل السَرد القَصَصيّ التالي: في تلال بلاد الواق واق، تمكّنت مجموعة من اللصوص من السيطرة على المنطقة، وفجأةً خَرَج زعيم قُطّاع الطُرُق ليُعلنَ نفسه “ملِكًا لحكومة جنوب الواق واق المُستقلّة ورئيسًا لحكومتها” وإذا كان لدى هذا الزَعيم ولدى رجاله القُوّة والموارد للحفاظ على حُكمهم وسيطرتهم لفترة من الزمن… فاحزر ماذا سيحدث؟ يا للدهشة! لقد أصبحوا دولةً مُعترَفًا بها، ها قد انضمّت دولة جديدة إلى عائلة الأُمُم والدُوَل في العالَم. وهكذا أيُّها القارئ- يتحوّل قادة العصابات السابقين إلى مُلوك وحُكّام نُبلاء وقادة شرعيين في هذا العالَم !